ظلت بيوتات الإدارة الأهلية في السودان تشكل جزءاً أصيلاً من تاريخ السودان القديم والمعاصر، فهي المحفظة المالية الأكبر للوطن، ولعبت دوراً مفصلياً في الحركة الوطنية فهي التي اغتالت أحلام وآمال المستعمر حين قدم الناظر عبد الرحمن محمد إبراهيم دبكة ناظر البني هلبة نائب دائرة غرب نيالا في 19 ديسمبر 1955م مقترح إعلان الاستقلال وثناه مشاور جمعة سهل ناظر المجانين ونائب دائرة دار حامد غرب، فهذا شرف نالته الإدارة الأهلية، ولا يستطيع أحد أن ينازعها في هذا الشرف الاذي أجيز بالإجماع ولم تمكن من النخب أحداً أن ينافسها، إلا زعيم المعارضة الذي استطاع بأعجوبة أن يسجل اسمه في قائمة الشرف بحديثه التوثيقي عن مسيرة النضال وقرارات مجلس النواب المتتابعة التي من بينها القرار التاريخي بجلاء القوات البريطانية المصرية عن أرض الوطن.
نحن نلنا الاستقلال بفضل الله أولاً وبفضل الإدارات الاهلية بالسودان ومجاهداتها ونضالاتها، حيث كان لآبائنا القدماء طموح كبير لكن النخب قد أفشلته ودخل الجميع في الصراعات السياسية وأهملوا نهضة وتنمية الوطن.
إنني نظرت أمس الأول في ظهور الإدارات الأهلية بتلك الصورة المشرفة التي تبين شكل التضامن الأهلي والعشائري مع المجلس العسكري الانتقالي، لكن بعض من قوى الحرية والتغيير وبعض مناضلي الكيبورد وجهوا نقدًا غير رشيد لهؤلاء الزعماء الذين الإساءة إليهم تعتبر إساءة للجميع. لا يستطيع أحد أن يغتال مبادرات عمق السودان والمحافظ على كيان الوطن الذي انهكته صراعات الشيوعية والرأسمالية الجديدة، فإذا كانت الإدارات الأهلية بكل عمقها المجتمعي وتاريخها غير مؤهلة لجمع كلمة أهل السودان فمن غيرها في خضم الأحداث التي تكاد تعصف بالجميع، إذا كان في نظر البعض، أن الإدارات الأهلية مجرد متكسبين وغير قادرين على العمل مع كل المجموعات ومحاورتها وفي ظل فشل قوى الحرية والتغيير في تقديم الوجه والخيارات الأفضل للشعب السوداني فمن يكون الأفضل والمتغلب على الكل في طرح الحلول والمخارج الآمنة.
هل قوى الحرية والتغيير قادرة على ترميم أجسامها المتحللة ولو بتكثيف التدخلات وفرض الهيمنة على الكل وبلادنا تنهار إداريًا ومالياً بسبب الفراغ الدستوري الذي تعيشه منذ خلع النظام السابق وحتى الآن ـ الآن الجميع قد شاهد الحشود غير المسبوقة لرجالات الإدارة الأهلية ومخاطبة الفريق أول محمد حمدان دقلو نائب رئيس المجلس العسكري له، وقبله كان حشد تجمع تيار نصرة الشريعة ودولة القانون، فهذه المظاهر والحشود العفوية تجعلنا نتساءل : هل الشعوب بتكويناتها الدينية والقبلية والإثنية ستتمكن من فرض إرادتها وطرح البديل الذي يمكن الجميع من الخروج من الأزمة الحالية ـ هل إرادة ورسالة أهل السودان التي أبلغتها المجلس العسكري الانتقالي عبر الإدارة الأهلية تمكنه من تشكيل حكومة كفاءات ومهنية، تقود أعباء المرحلة الانتقالية وتجدد في نفوس السودانيين الأمل والعشم بعدما أحبطوا من تحركات قوى الحرية والتغيير وعدم قدرتها على التواصل.
إذا أردنا بفكرة مجردة التقييم والتغيير، على رجالات الأهلية والتقليل من قدرهم وهم الأنسب للتعبير عن أهل السودان بتنوعهم وقبائلهم المختلفة، وهويمثل الشرط الأساسي لنمو ونهضة السودان ورفع الظلم عن المضطهدين وتحررهم الإنساني قبل المادي..